دراسات إسلامية

 

دارالعلوم .. حركة ذات أبعاد متعددة

بقلم:  الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)

 

 

     لقد غزا الاستعمار الأوربيّ في القرن التاسع عشر كثيرًا من بلاد العالم، لاسيَّما البلاد الإسلامية، فتمخَّضت عنه أزمات دينية واجتماعية وسياسية، ونتج عنه الإلحاد والزندقة والإباحية، ومُلئ الناس رعبًا بالدول الاستعمارية الغازية والثقافة الغربية الوافدة. فإذا سرَّحنا الطرف على العالم الإسلامي من أندونيسيا إلى المغرب لم نجد حركة تقوم سدًّا منيعًا في وجه سيل التغريب والتشكيك والإلحاد الذي صَحِب الاستعمار الأوروبي.

     في مثل هذه الظروف العصيبة انطلقت حركة الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند- التي عُرفت بـ«حركة ديوبند» نسبة إلى موطنها الأصلي- وكانت في بداية أمرها بسيطة ضئيلة، ثم قويت واشتدّت، وشملت وتوسّعت، حتى عادت أقوى الحركات تأثيرًا، وأوسعها نطاقًا، وأشملها أبعادًا، فهي حركة تعليمية تربوية في جانب.. دعوية توجيهية في جانب آخر.. وحركة حفاظ على علوم الإسلام وثقافته في ناحية.. دفاع عن حمى الدين وشعائره في ناحية أخرى.

     فلهذه الحركة أبعاد أربعة: البعد التعليمي والتربوي، والبعد الدعوي والتوجيهي، والبعد الحفاظي، والبعد الدفاعي.

     أما بعدها التعليمي والتربوي فقد قام العلماء الربَّانيون الغيارى بإنشاء الجامعة على عهد الاستعمار الإنجليزي في الهند عام 1866م، بعد ما طبَّق الإنجليز خُطَّتهم التعليمية في المدارس الهندية الرسمية الهادفةَ إلى إعداد جيل هنديّ النسل واللون غربيّ الفكر والثقافة. وقد جاء إنشاء الجامعة كحركة تعليمية، وسرعان ما نالت الحركة قبولها وشعبيتها لدى المسلمين، فأنشئت على غرارها مدارس كثيرة في شبه القارة الهندية- الهند، وباكستان، وبنغلاديش-، حتى بلغ عددها الآن آلافًا في هذه البلاد الثلاثة، وهي في ازدياد مستمرّ، وذلك ماعدا الكتاتيب الإسلامية الأهلية المنتشرة في أحياء المسلمين وقراهم.

     ثم توسَّع نطاق الحركة حتى وصلت إلى البلاد المتآخمة والقريبة لشبه القارة الهندية كأفغانستان وإيران، والنيبال وبورما، وسري لانكا، وأندونيسيا وماليزيا، حتى بلاد الحرمين. ثم خرجت الحركة من قارة آسيا إلى القارات  الأخرى، كإفريقيا بشطريها الشرقي والجنوبي، وأوروبا، وأمريكا وأستراليا.

     ففي كل من هذه البلاد والقارات قامت مدارس على نمط الجامعة تتبعها في منهجها الدراسي والفكري، والكثير منها تسمت باسم «دار العلوم» تيمنًا باسمها وتوثيقًا لانتمائها الفكري والمنهجي.

     فالجامعة والمدارس التي تسير على غرارها تُعنى بتربية الأجيال تربية إسلامية، وتخريِج آلاف مؤلَّفة من الطلاب كلَّ سنة علماء ومدرِّسين، وكتابًا وخطباء، ودعاة ومرشدين، ونُشَطاء وخَدَمة، يعملون في أوساط المسلمين.

     وأما بعدها الدعوي والتوجيهي فقد قامت الجامعة بتثقيف المسلمين وتوجيههم وتوعيتهم خيرَقيام، وقدمَّت لهم الإسلام في شكله الصحيح المتوارث من سلف الأمة، وتعبيره الأصيل المأثورمنهم، حتى كسبت ثقتهم واعتبارهم، وأصبحت مرجعًا لهم يفزعون إليها في قضاياهم ومشكلاتهم الدينية.

     لقد رفعت الجامعة مستوى الوعي الديني للمسلمين في الهند، ونفخت فيهم الروح الديينة وأثارت فيهم الغيرة الإسلامية، مما صانهم من الذوبان في المجتمع الهندي المشرك، والتنازل عن شيء من معتقدات الإسلام وشعائره، وجعلهم أفضل بكثير من مسلمي كثير من بلاد العالم دينيًّا واجتماعيًّا.

     فإن رأيتهم يخرجون إلى الشوارع محتجِّين على قرار يصدره البرلمان الهندي، والذي يمس دينهم وعقيدتهم، أو مستميتين في سبيل الحفاظ على مساجدهم ومدارسهم وآثارهم الإسلامية، أو متبرِّعين بسخاء للجامعات والمدارس والجمعيات والمنظَّمات والمؤسسات الإسلامية الأهلية، فالفضل في ذلك كله يرجع إلى الجامعة وجهودها المبذولة المتنوعة بعد الله عزَّوجل.

     وأما بعدها الحفاظي فهو أنّ الجامعة أنشئت بعد ما سقطت الحكومة المغولية في الهند وطُوِي بساطها، واستبت فيها إمرة الإنجليز، فأغلقوا المدارس ودور التعليم، و صادروا الأوقاف والأراضي، وجفَّفوا الموارد التي كانت تُمِّد المدارس بالمعونة المادية، واستهدفوا علماء المسلمين، فكم قُتِّلوا منهم بأيديهم الآثمة، وكم شُنِقوا، وكم نُفوا إلى الجزائر خارج الهند.

     هنالك خاف العلماء الربانيون الغيارى على بقاء الإسلام وعلومه وثقافته في هذه البلاد، واهتدوا بفراستهم الإيمانية إلى وسيلة ناجعة لبقائه، وهي إنشاء مدارس تكون معاقل للشريعة الإسلامية وعلومها، ومحاضن للأجيال المسلمة، ومراكز للإشعاع الديني للمسلمين.

     فأول مدرسة أنشئت لهذا الغرض النبيل هي «المدرسة العربية الإسلامية» بديوبند التي تعرف اليوم بدار العلوم بديوبند. والحق أن إنشاء هذه المدرسة كان عبارة عن تفجير حركة واسعة لإنشاء المدارس؛ لذلك فقد تبع إنشاء المدرسة الأولى في ديوبند نشرُ شبكة واسعة للمدارس والكتاتيب الإسلامية في طول البلاد وعرضها.

     وقد نجحت الحركة في أهدافها وأغراضها كلَّ النجاح، فقد حُفظ الإسلامُ وعلومه وثقافته، وبقي كيان المسلمين في البلاد، وجاءت المدارس الإسلامية خير بديل للحكومة المغولية في الحفاظ على الإسلام في صورته الأصيلة في شبه القارة الهندية.

     وأما بعدها الدفاعي فهو يتمثل في الجهود المبذولة للدفاع عن عقيدة الإسلام وشعائره، والردَّ على الفرق الضالة والحركات الهدَّامة والأفكار المنحرفة. كان الاستعمار الإنجليزي مصدر ويلات وآفات للمسلمين في الهند، فقد استجدَّت  بمجيئه فرق ضالة، ونشأت حركات هدَّامة، وظهرت أفكار واتجاهات منحرفة؛ فهبَّ مشايخ الجامعة وأبناؤها للذب عن حمى الدين، و نفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فكلما ظهرت فكرة تمس عقيدة من عقائد الإسلام أو شعيرة من شعائره تعقَّبوها وردُّوا عليها حتى حصحص الحق لعامة المسلمين، وزالت لهم الشبهة، وكشفت لهم الغمة.

     أما الدعوات والفرق الطوائف التي تعقَّبوها وردُّوا عليها فهي فيما يلي:

     1- المسيحية: لقد انتشر الأساقفة والمبشرون بالمسيحية في أرجاء البلاد كلها بعد الاحتلال الإنجليزي يدعون الناس إلى اعتناق المسيحية بأساليب متنوعة من الرغب والرهب، والحوار والمناظرة، وتوجيه الاعتراضات إلى الإسلام وإثارة الشكوك في عقائده وشعائره. فقام علماء الإسلام للرد على المسيحية بالمناظرة والحوار والبحث و الاستدلال، حتى سدُّوا سيل التنصير العارم، وصانوا المسلمين من ويلاته. وجهود العلامة رحمت الله الكيرانوي والإمام محمد قاسم النانوتوي والشيخ منصور علي المراد آبادي في هذا الشأن محمودة مشكورة لا تُنسى.

     2- القاديانية: كما أسلفت أنّ الاستعمار الإنجليزي قد ولَّد فرقًا وأشخاصًا شقُّوا عصا المسلمين وزرعوا الفرقة بينهم، وتلاعبوا بمعتقداتهم الأصيلة الثابتة من الكتاب والسنة، فمنهم الميرزا غلام أحمد القادياني الذي تنبَّأ وفتن المسلمين السُذَّج، والذي عرفت فرقته بـ «القاديانية».

     خرج مشايخ الجامعة وأبناؤها إلى المجال، وكشفوا لعامة المسلمين عن ضلال هذه الفرقة وأباطيلها، وألَّفوا كتبًا ومؤلفات قيمة في الردّ عليها، مما عرّف بزيفها وزيغها  المسلمين في بلاد العالم الإسلامي.

     3- الشيعة: كان في ولاية «أوده» حكومة شيعية، وكذلك كان للشيعة نفوذ في الحكومة المغولية، مما طبع الهند كلها بطابع شيعي وزرع بذور معتقدات الشيعة وحبها في قلوب عامة المسلمين من أهل السنَّة والجماعة، فكانوا يرفعون الضرائح الكاغذية كالشيعة ويحضرون طقوسهم في الحسينيات، ويعتبرون كلَّ ذلك شطرًا من دينهم.

     بذل علماء الجامعة وأبناؤها جهودًا مكثَّفة لإزالة الآثار السيئة من قلوب عامة المسلمين من أهل السنة والجماعة، وأرشدوهم إلى معتقدات أهل السنة والجماعة بإلقاء الخطب وتأليف الكتب، فوضح الأمر لعامة المسلمين ومَازَ الحقُّ من الباطل لهم، فأصبحوا يكرهون معتقدات الشيعة ويجتنبون ممارسة طقوسهم الدينية، وحضور الحسينيات.

     4- الدعوة إلى اعتناق الهندوسية: إنَّ معظم المسلمين في الهند كان آباءهم من الهندوس وأكرمهم الله بنعمة الإسلام، فهم يعتزُّون به، ويشكرون الله على إنقاذهم من أوحال الشرك والوثنية.

     أغرى الإنجليز المستعمرون الهندوسَ بأن يرُدُّوا أمثال هؤلاء المسلمين إلى الديانة الهندوسية ليزدادوا عددًا. فقام دعاة الفرقة الآرية من الديانة الهندوسية بدعوتهم إلى اعتناق الهندوسية، وردِّهم إلى دين آبائهم. وقد نشطت هذه الدعوة أيام الاحتلال الإنجليزي في الهند وأيام قسمتها إلى قطرين: الهند وباكستان.

     قاوم علماء الجامعة حركة الردة هذه مقاومة فعّالة، فناظروا دعاتها ومُبشِّريها، وألفوا الكتب والرسائل، واستخدموا نفوذهم وتأثيرهم السياسي حتى أنقذوا المسلمين من ورطة الردة.

     5- مواجهة الفرق المبتدعة: لما جاء الإسلام إلى الهند أثَّر على مدنيتها واجتماعها ودياناتها تأثيرًا كبيرًا، كما تأثَّر الإسلام وأهله باجتماعها و تقاليدها وخرافاتها تبعًا لعملية التفاعل. وقام من صفوف المسلمين علماء السوء الذين خلعوا على البدع والخرافات والتقاليد الجاهلية التي تسربت إلى المسلمين الشرعيةَ، وقدَّموا لها أدلة واهية من الكتاب والسنة وآثار السلف، حتى أصبحوا فرقة لها دعاة ونشطاء يدعون الناس إلى ممارسة ذلك باسم الدين.

     فقام بالرد على الفرق المبتدعة وإرشاد الناس إلى الصراط المستقيم العلماءُ الربانيون وعلى رأسهم مشايخ وأبناء هذه الجامعة أمثال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، والشيخ خليل أحمد السهارنفوري، والشيخ أشرف علي التهانوي ومن إليهم، ومتخرجوها لايزالون يضطلعون بهذه المسؤولية حتى الآن.

     6- الفرقة اللامذهبية: إنَّ معظم الحكومات الإسلامية التي قامت في الهند كانت تتمذهب بالمذهب الحنفي، وتصدر عنه في وضع القوانين والدساتير، وكان أهاليها من المسلمين يتبعون المذهب الحنفي، فلا انحراف عن التقليد، ولا ابتعاد عن المنهج المتوارث، ولا طعن على السلف الصالح.

     ولما ضعفت الحكومة المغولية وأشرفت على السقوط، ووطئت أقدام الإنجليز الهند استجدّت فرق وطوائف متنوعة، منها الفرقة اللامذهبية التي انحرف اتباعها عن المنهج المتوارث في فهم نصوص الكتاب والسنة، وطعنوا على الأيمة الأربعة لاسيما الإمام أبوحنيفة، ورموا الملقدين للمذاهب الفقهية بالشرك، ودعوا عامة المسلمين إلى التحرُّر من التقليد.

     قاوم علماء الجامعة هؤلاء اللامذهبيين الذين كانوا ينشرون بين المسلمين الإباحية والحرية الفكرية والاتجاهات المنحرفة، وردُّدوا عليهم بتأليف الكتب والرسائل، وعقد المحاورات والمناظرات، ليتضح لجماهير المسلمين الحقُّ والمسار الصحيح.

     7- النيجرية والعقلانية والدعوات المنحرفة: إن كان الانقلاب الأوروبي المعرفي والاقتصادي له تأثير إيجابي عظيم على المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتجارية فقد أثار هو ضجَّة في الأوساط الدينية؛ لأن الانقلاب المعرفي كان في الحقيقة ثورة على المسيحية التي كانت تُشكل عقبة كآداء في سبيل الرقي والتقدم، فأخرج الانقلابيون الدين من الحياة الاجتماعية النشطة، وحصروها في الكنائس، وفي الحياة الشخصية، ثم أخرجوا الدين من جميع مجالات الحياة، واستعاضوا عنه العلمانية والعقلانية.

     ثم إن العقلانية الناشئة من الاستعمار الأوروبي قد ولَّدت المعتزلة الجديدة، والنيجريين (الطبيعيين)، ومنكري الحديث، والمتنوِّرين، ومن إليهم من أصحاب الأفكار المنحرفة والاتجاهات الخاطئة.

     قاوم مشايخ الجامعـة وأبناؤها هؤلاء جميعًا، وردُّوا على أفكارهم واتجاهاتهم، وذبُّوا عن حمى الإسلام ورابطوا على ثغوره، وفسروا الإسلام تفسيرًا متوارثًا عن سلف الأمة وأئمتها العظام.

     وهذا وكلما شذَّ فرد أوجماعة عن جادَّة «ما أنا عليه وأصحابي»، وحاول نشر أفكاره واتجاهاته المضادَّة للإسلام أنكر عليه علماء الجامعة شذوذه وانحرافه، وبينوا الموقف الصحيح لئلا يتورط عامة المسلمين في الزيغ والضلال.

     فبفضل الله عزَّ وجلَّ أولاً، وجهود علماء الجامعة ثانيًا بقي الإسلام في صورته الأصيلة في هذه البلاد، بل وتميَّز عما عليه في كثير من الدول الإسلامية.

*  *  *



(*)   أستاذ قسم الأدب العربي بالجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند (الهند)

      sajidqasmideoband@gmail.com

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالحجة 1436 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2015م ، العدد : 12 ، السنة : 39